
إدمان التحفيز اللحظي: كيف غيّرنا التمرير السريع؟
محمد غازي جابر/ معهد البحوث والدراسات الاستراتيجية
متى كانت آخر مرة شعرت فيها بالملل؟ ربما لا تتذكّر. أو لعلّك تذكرها كحالة من الضيق الذي حاولت الهروب منه سريعا. لنفترض أنك تنتظر صديقاً في مقهى، فيتأخر دقيقتين. في الدقيقة الأولى تنظر حولك، وفي الثانية تخرج هاتفك وتبدأ بتصفّح مقاطع قصيرة دون تفكير. لا إشعارات جديدة، ولا أمر مهم يدعوك لذلك، لكنك تفعل. لماذا؟ ما الذي يدفعنا لهذا الهروب الفوري من الصمت أو السكون؟ إن ما نعيشه اليوم هو حالة من التعلّق بما يسمى “التحفيز الفوري”، أي البحث عن متعة سريعة أو مكافأة مباشرة دون صبر أو انتظار. نحن لا نحتمل التأجيل، ولا نحب الفراغ، ولا نعرف كيف نعيش لحظة من دون إثارة. كتب الباحث باري شوارتز في كتابه مفارقة الإختيار: “الوفرة ليست نعمة دائماً، أحيانا تقتل قدرتنا على التقدير”. هذا التوصيف ينطبق تماماً على ما نعيشه مع تدفّق الصور والمقاطع والخيارات المتلاحقة. كل شيء سريع ومتاح، لكن كلما زاد، قلّ أثره في نفوسنا.
العقل البشري بدأ يتأقلم مع هذه السرعة، لكن على حساب التركيز والصبر والتأمل. دراسة أُجريت في جامعة هارفرد أظهرت أن التفاعل مع وسائل التواصل الإجتماعي، مثل الإعجاب أو مشاهدة مقطع جديد، يحفّز إفراز مادة الدوبامين، وهي نفسها التي تَنشط عند تناول السكّر أو النيكوتين. ومع كثرة هذا التحفيز، تبدأ عقولنا في طلب المزيد… والمزيد، حتى يصبح التمرير بحد ذاته إدمانا غير معلن.
يقول عالم الأعصاب أندرو هوبيرمان: “ما تعتقد أنه ترفيه خفيف، هو في الحقيقة إعادة تشكيل مستمرة لوظائف دماغك”. إنها عبارة صادمة، لكنها تعبّر عن حقيقة أننا نُعيد برمجة أدمغتنا لنرفض الصمت، ونخشى السكون، وننفر من أي شيء لا يمنحنا إثارة فورية، في المقابل هناك شيء بسيط بدأنا نفقده: الملل. في تجربة أجرتها معلمة في إحدى المدارس، طلبت من طلابها أن يعيشوا يوماً كاملاً دون إستخدام أي جهاز إلكتروني. عبّر أغلب الطلاب عن مشاعر قلق وإنزعاج، لكن بعضهم كتب: “بدأت ألاحظ صوت العصافير لأول مرة”، “أمضيت ساعة أراقب الغيوم”، “كتبت صفحات دون أن أُجبر”. إنها تفاصيل بسيطة، لكنها تكشف شيئاً دفيناً في أعماقنا: إن الملل ليس عدواً، بل هو الفرصة التي تُعطينا إيّاها الحياة لنعيد الاتصال بأنفسنا. كتب المفكر آلان دي بوتون: “لا شيء يكشف ذاتك أكثر من لحظة ملل لم تملأها بشيء”. لقد صار الملل في هذا العصر مهارة منسية، رغم أنه مفتاح لاكتشاف أعمق المشاعر والأفكار.لذلك، علينا أن نتعلّم التوقّف، لا هربا من الحياة، بل اقترابا منها. ليس كل فراغ يجب أن يُملأ، ولا كل دقيقة يجب أن تُستهلك. يقول الفيلسوف سلافوي جيجك: “إنّ عصرنا لا يخشى الألم، بل يخشى التوقف”. وربما كان هذا التوقف هو ما نحتاجه تماماً.
انتهى .